فتح الجزيرة
أما عياض بن غنم فقد وصل إلى الجزيرة ( الجزيرة السورية ) وصالح أهل (حران) و (الرها) و (الرقة)، وبعث أبا موسى الأشعري إلى (نصيبين)، وعمر بن سعد بن أبي وقاص إلى (رأس العين) وسار هو إلى (دارا)(مكان دير الزور اليوم على نهر الفرات ، وهي قرب قرقيساء التي هي مكان البصيرة عند التقاء نهر الخابور بنهر الفرات) ففتحت هذه المدن، كما أرسل عثمان بن أبي العاص إلى أرمينيا فحدث قتال ثم صالح عثمان أهل البلاد على جزية مقدارها دينار على كل أهل بيت
فتح سواحل الشام
وفتحت (قرقيساء) على يد عمر بن مالك، وصالح أهل (هيت)، وكان يزيد بن أبي سفيان قد أرسل أخاه معاوية على مقدمته ففتح بناء على أوامر أبي عبيدة المدن الساحلية طرطوس واللاذقية وانطاكية وصور وصيدا وبيروت وعرقة . إلا أن خطأ قد وقع أثناء الفتح، وهو أن المسلمين لم يكونوا ليمشّطوا البلاد التي يفتحونها تمشيطاً كلياً حيث يخلونها من كل من يمكن أن يتمرد في المستقبل أو يكون عوناً للروم الذين يفكرون في استعادة بلاد الشام ويعتقدون أنه لا تزال لهم مراكز قوة فيها، إذ أن المسلمين كما رأينا قد بدؤوا بالمناطق الداخلية التي هي مجال حركتهم، وعلى صلة بالمدينة المنورة قاعدة الحكم الإِسلامي، بناءً على أوامر القيادة العامة، وحاولوا الابتعاد عن السواحل التي كانت للروم فيها قواعد بحرية، الأسطول الرومي يجوب تلك السواحل على حين لم يكن للمسلمين بعد أية قوة بحرية، فهم بالدرجة الأولى أبناء داخل وصحارى ولربما كان أكثرهم لم ير البحر بعد، ومنهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نفسه. وكذلك فقد تركوا الجزر الجبلية والتفوا حولها ظناً منهم أن أولئك السكان الذين كانوا على درجة من القلة لا تمكنهم من عمل شيء، لذا فإنهم ينزلون على حكم المسلمين راضين أو كارهين إضافة إلى فقر تلك الجهات هذا ويزيد ذلك وعورة تلك الأماكن وصعوبة مسالكها، وهذه الخطيئة نفسها تكررت في الأندلس، فكان من تلك الجزر الجبلية البلاء العظيم الذي أطاح بالمسلمين من الأندلس بعد مدة طويلة من الزمن، والذي لا نزال نذوق منه الويلات، إذ كان سكان الجبال عوناً للروم ودعماً لهم كلما ظهر الروم على الشواطئ الشامية، وهذا ما كان يستشعره الروم من أن لهم قوة تعتصم في المناطق الجبلية كما دعت الحاجة، كما أن قوة أخرى كانت لهم، وهي أن الروم عندما اجلوا عن تلك البلاد الشامية رحلت معهم بعض القبائل العربية المتنصِّرة الحليفة لهم والمنتصّرة من غسان وتنوخ واياد ولخم وجذام وعاملة وكندة وقيس وكنانة ظناً من هذه القبائل أن الروم لا يمكنهم أن يتركوا الفاتحين الجدد في البلاد الشامية، وكان لهذه القبائل مراكزها وأنصارها في المنطقة، كل هذا كان يشجع الروم على التفكير في محاولة استرجاع البلاد، وقد تمكن الروم فعلاً من استعادة بعض السواحل الشامية في الوسط ، ولكنهم لم يلبثوا أن طردوا منها. ولعل من الأخطاء التي وقعت آنذاك الاستعانة بالجراجمة، وهم سكان منطقة الجرجومة وهي مدينة تقع في جبل الأمانوس (اللكام) شمال إنطاكية، وقد كانت لهم دولة مركزها مرعش، ويعتقد أنهم من بقايا الحثيين. وعندما صالح أبو عبيدة بن الجراح أهل إنطاكية همّ الجراجمة بالانتقال إلى بلاد الروم خوفاً على أنفسهم، إلا أن المسلمين لم يأبهوا بهم آنذاك، ولكن إنطاكية لم تلبث أن نقضت العهد، واضطر المسلمون إلى فتحها ثانية، وعين أبو عبيدة عليها (حبيب بن مسلمة الفهري) الذي استعد لغزو جرجومة، فاضطر أهلهالطلب الصلح، وكانوا يساعدون المسلمين أحياناً عندما يرون فيهم القوة، ولكنهم إن وجدوا في الروم قوة كاتبوهم على أن ينقضّوا على المسلمين، وهذا ما كان يشجع الروم، ويُبقي عندهم الأمل في العودة إلى بلاد الشام، ولربما كان المسلمون بحاجة إلى الجند آنذاك، وقد وجدوا في الجراجمة عنصراً محارباً ودعماً عسكرياً فاستفادوا منهم، إلا أنه لا يؤمن لهم ولا لعهودهم ما دامو لا يدينون دين الحق، ولا ينظرون إلا إلى مصالحهم، وهذا ما كان يجعلهم يقفون بجانب الروم أحياناً وبجانب المسلمين مرة أخرى، ثم توزعوا في المناطق الجبلية الغربية عوناً للروم، وبقي لهم خطر على البلاد ولأحفادهم الذين اعتقدوا عقائد غريبة حتى الآن.
فتــح مصــر
لما انتهى فتح المسلمين لبلاد الشام، وانتهى عمرو بن العاص من فتح فلسطين، استأذن عمرو بن العاص من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في السير إلى مصر للفتح، فوافق عمر وسيّره إليها، ثم أمده بالزبير بن العوام ومعه بسر ابن أرطأة وخارجة بن حذافة، وعمير بن وهب الجمحي، فالتقيا عند باب مصر، ولقيهم أبو مريم ومعه الأسقف أبو مريام وقد بعثه المقوقس من الإسكندرية، فدعاهم عمرو بن العاص إلى الإِسلام أو الجزية أو القتال، وأمهلهم ثلاثة أيام فطلبوا منه أن يزيد المدة فزادها لهم يوماً واحداً، ثم نشب القتال، فهزم أهل مصر، وقتل منهم عدد كبير، منهم الأرطبون الذي فر من بلاد الشام إلى مصر، والذي أجبر أهل مصر على المقاومة، وحاصر المسلمون عين شمس، وارتقى الزبير بن العوام السور، فلما أحس السكان بذلك انطلقوا باتجاه عمرو على الباب الآخر، إلا أن الزبير كان قد اخترق البلد عنوة ووصل إلى الباب الذي عليه عمرو، فصالحوا عمراً وأمضى الزبير الصلح، وقبل أهل مصر كلهم الصلح، إذ كان قد وجه عبد الله بن حذافة إلى عين شمس فغلب على أرضها وصالح أهل قراها على مثل صلح الفسطاط. ثم أرسل عمرو جيشاً إلى الإسكندرية حيث يقيم المقوقس، وحاصر الجيش المدينة، واضطر المقوقس إلى أن يصالح المسلمين على أداء الجزية واستخلف عمرو بن العاص عليها عبد الله بن حذافة. وانشئت مدينة الفسطاط مكان خيمة عمرو حيث بني المسجد الذي ينسب إليه الآن. وأقيمت البيوت حوله. وأرسل عمرو قوة إلى الصعيد بإمرة عبد الله سعد بن أبي سرح بناءً على أوامر الخليفة ففتحها، وكان الوالي عليها كما أرسل خارجة بن حذافة إلى الفيوم وما حولها ففتحها وصالح أهلها، وأرسل عمير بن وهب الجمحي إلى دمياط وتنيس وما حولهما فصالح أهل تلك الجهات. ثم سار عمرو بن العاص إلى الغرب ففتح برقة وصالح أهلها، وأرسل عقبة ابن نافع ففتح (زويلة) واتجه نحو بلاد النوبة، ثم انطلق عمرو إلى طرابلس الغرب ففتحها بعد حصار دامشهر، كما فتح (صبراته) و (شروس) ومنعه عمر بن الخطاب أن يتقدم أكثر من ذلك إلى جهة الغرب.
الجبهة الشرقيــة
كان الخلاف على الحكم قوياً في الدولة الفارسية الفرس كما كان الحكام على خلاف فيما بينهم، فلما غادر خالد بن الوليد العراق إلى الشام شعر الفرس بقلة من بقي من جند المسلمين هناك، فأرادوا النيل منهم وطردهم من أرض العراق، فأرسل شهريار ملك الفرس جيشاً قوامه عشرة آلاف مقاتل لمحاربة جيش المسلمين بقيادة المثنى بن حارثة الشيباني، إلا أن الفرس قد هزموا هزيمة منكرة أيضاً. طلب المثنى بن حارثة المدد من المدينة، إلا أن أخبار الصديق قد تأخرت عليه لانشغاله بقتال الشام الأمر الذي جعل المثنى يسير بنفسه إلى المدينة وقد خلّف وراءه على المسلمين بشير بن الخصاصية، فلما وصل إلى قاعدة الحكم وجد أبا بكر في آخر عهده وقد استخلف عمر من بعده. فلما رأى أبو بكر المثنى قال لعمر : إذا أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس لحرب أهل العراق مع المثنى، وإذا فتح الله على أمرائنا بالشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق فإنهم أعلم بحربه. فلما مات الصديق ندب عمر المسلمين إلى الجهاد في أرض العراق، وأمر على المجاهدين أبا عبيد بن مسعود الثقفي حيث كان أول من لبى النداء ولم يكن من الصحابة، مع العلم أن عمر لم يكن ليولي إلا من كان صحابياً، وعندما سئل في هذا الأمر أجاب : إنما أؤمر أول من استجاب، إنكم إنما سبقتم الناس بنصرة هذا الدين، وإن هذا هو الذي استجاب قبلكم، ثم دعاه فوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً. وأمره أن يستشير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار المجاهدون إلى العراق. وكتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الوقت نفسه إلى أبي عبيدة في الشام أن يرسل جيش وامداد من دمشق مع خالد بن الوليد، فسيّرهم أبو عبيدة بعد فتح دمشق بإمرة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص. وأرسل عمر أيضاً مدداً آخر بقيادة جرير بن عبد الله البجلي قوامه أربعة آلاف، فسار باتجاه الكوفة، والتقى بقائد فارس فهزمه شر هزيمة وسقط أكثر جند الفرس في النهر.
|